ثِقل ملف النازحين يُجمّد “فورة” البلديات: تنظيمهم يفوق قدرتنا
كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
يتأرجح ملفّ النازحين السوريين في لبنان بين مستويين من المعالجة، يُفترض أن يكونا متكاملين. الأوّل مركزيّ، وتديره السلطة السياسية المتمثّلة بمجلس النوّاب وحكومة تصريف الأعمال. أمّا الثاني، فيقع على عاتق السلطات المحلية، أي البلديات، المُتأثّرة مباشرة بهذا الحمل الثقيل المضاف إلى أعبائها المتراكمة منذ زمن. ظهرت قضية النازحين مع بدء توافد أفواجهم إلى لبنان إثر اندلاع الحرب السورية، لكن وتيرتها أخذت منحى تصاعديّاً، مع ارتفاع أعدادهم بشكل هستيريّ وعدم تنظيمهم وضبطهم وفق معايير وشروط اللجوء، حتى باتت تُشكّل تهديداً للتركيبة الديموغرافية اللبنانية المتنّوعة والحسّاسة للغاية نظراً لانعكاسها على العقد الإجتماعي – السياسي الوطنيّ من جهة، والواقع الإقتصادي والمعيشي من جهّة أخرى.
3 نساء و16 ولداً… ومساعدات أممية
لا تتعاطى المفوضية الأممية مع واقع النازحين بشفافية وموضوعية. فيما تؤكّد أن مساعداتها محصورة فقط بالرجال المتزوّجين ولديهم أبناء، أوضح رئيس بلدية القاع بشير مطر أنّ أكثر من 100 حالة مرصودة من قبله، عن نساء متزوّجات من رجل واحد يتلقّين مساعدات مالية من المفوضية ويتنقّلن بين لبنان وسوريا. ومن النماذج الفاضحة لمعايير اللجوء، أنّ أحد النازحين لديه ثلاث نساء و16 ولداً، ثلاثة منهم يخدمون في الجيش السوري، وفي الإنتخابات الأخيرة صوّت للرئيس بشّار الأسد، ويعيش على مساعدات الجهة الدولية المذكورة.
كانت مواقف محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر، الجرس الذي أيقظ الدولة من غفوتها ولامبالاتها، وفتح عيون البلديات مجدداً على ما يدور في خلدها من إنفلاش النازحين أكانوا شرعيين أو غير مستوفي المعايير القانونية، وجهلها لتعدادهم ونسبة ولاداتهم. وإذا عدنا إلى الشهرين الماضيين، لوجدنا أنّ البلديات قد تحوّلت إلى خلايا ناشطة ومستنفرة. فهل نجحت في اختبارها بمتابعة ومعاينة وتنظيم النازحين، بانتظار ساعة السلطة لأخذ قرار الحسم؟ أم أنّ فورتها تلاشت أمام تعقيدات الملف وتشعّباته الإقليميّة والدولية؟
عين القاع الساهرة
البداية مع القاع، البلدة الأشهر التي نالت نصيبها من الأزمة السورية، مرّة باستهدافها من قبل انتحاريين ومرّات بتحمّل أعباء النازحين السوريين الذين تخطّت أعدادهم الـ33 ألف نازح، مقابل 5 آلاف مواطن من أهاليها المُقيمين. رئيس بلديتها بشير مطر، الموصوف بديناميكيته ومتابعته كل ما يجول ويدور في فلك سلطته المحليّة، هو أحد أبرز الأصوات الصارخة والمنبّهة من وقوع الكارثة وانفجار الأزمة إذا استمرّت على منوالها من دون معالجات سريعة وجذرية. واعتبر مطر في حديث لـ»نداء الوطن»، أن «أكثر ما يخيفنا في هذه القضية هو تراخي السلطة السياسية في التعامل مع هذا الملف واستجداء «الداتا» الخاصّة بالنازحين من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي لم تسلّمها للدولة حتى اليوم».
وأشار إلى أنّ المواقف المعلنة التي يطلقها بعض المسؤولين السياسيين والحكوميين ليس لها أي ترجمة فعلية على أرض الواقع، خصوصاً بعد توصية الإتحاد الأوروبيّ الداعية إلى بقاء النازحين في لبنان. وما يثير دهشة رئيس بلدية القاع، أن ردّة فعل الحكومة كانت دون المستوى المطلوب، حتى أنّها لم تعمل على تحريك الجاليات اللبنانية الكبيرة والفاعلة في الدول الأوروبيّة للضغط عليها من أجل حفظ مصلحة لبنان وهويته، كما تفعل تلك البلدان، بوضع سياسات تحدّ من الإنعكاسات السلبية للجوء على مجتمعاتها.
تفاصيل ملفّ النزوح متعدّدة وخطيرة، وفي كلّ مرّة يُسلّط الضوء عليها، تبرز معها مسائل أخرى معقّدة، منها على سبيل المثال، ما كشفه مطر، عن وجود حوالى ألفي سوري من الذين شملهم مرسوم «التجنيس المصطنع» الشهير عام 1994، مع الإشارة إلى أنّ هؤلاء ليس لديهم أي جذور لبنانية، كما أنهم عادوا إلى قراهم وبلداتهم السورية بعد نيلهم الهوية اللبنانية التي لا يستحقونها. والمفارقة وفق مطر أنّ هؤلاء المجنّسين أصرّوا على السكن في القاع إلى جانب النازحين، رغم أن سجلّات قيدهم ونفوسهم في بلدات أخرى. أما المسألة الأبرز التي طرحها رئيس بلدية القاع، فهي المتعلّقة بالأمن الإجتماعي – الإستباقي، إذ قامت إحدى الجمعيات الأهلية المتخصّصة باستشارات ودراسات نفسية ومجتمعية، وأعدّت أكثر من عشرة آلاف استمارة حول الحالة النفسية للنازحين من أجل مفهوم جنوح المجتمع، أهو نحو التطرّف، الإكتئاب، المخدّرات، الجريمة الجنائية… والغريب وفق مطر أن هذه «الداتا» لم تُرفع للبلدية رغم مطالبتنا بها، ولا للدولة والجهات الرسميّة المعنية حتّى الآن. وختم لافتاً إلى تسجيل حالات مثيرة للإهتمام والمتابعة، إذ تعرّض أحد الأساتذة لنقمة من قبل النازحين لأنّه ناقش مع تلامذته السوريين في بعض حصص الإرشاد التربوي، مسألة الحريّة الشخصية، الأمر الذي اعتبره هؤلاء تعرّضاً لمعتقداتهم الدينيّة، ما أدى إلى تخريب عجلات سيّارته.
الزراعة سلاح النازحين
في سياق المتابعة لملف النزوح العابر للمناطق، نسلّط الضوء على «مثلّث» كفرحلدا – بساتين العصي – بيت شلالا في قضاء البترون، حيث يقطن أكثر من 3 آلاف نازح مقابل نحو 800 لبناني مقيم. تتشكّل المنطقة من أراض زراعية، ما جعلها نقطة جذب لبعض العاملين السوريين الوافدين قبل اندلاع الأزمة في بلادهم. مع وقوع الحرب السورية، انضمّت عائلاتهم إليهم، لتتحول لاحقاً إلى تجمّعات كبيرة للنازحين. وساهم انتشار خيمهم حول ضفاف نهر الجوز، في تلوّث المياه، نتيجة الرمي العشوائي للنفايات، ما استدعى تدخلاً من وزارة البيئة والبلديات المجاورة. واللافت في هذا الإطار، أن بعض السوريين تحوّلوا إلى مالكين غير رسميين للأراضي الزراعية، بمعنى أنهم باتوا يَضْمَنونها ويُضَمّنونها، رغم أن نسبة كبيرة منهم لا تملك أوراقاً ثبوتية وكذلك سياراتهم ودراجاتهم الناريّة، وبعضهم أصبح من تجّار المزروعات وموزّعيها على أسواق المنطقة. وتنشط تلك الفئة اقتصاديّاً وتجاريّاً عبر خطّ طرابلس – حمص.
في هذا الإطار، لا يُلقي رئيس بلدية كفرحلدا د. أديب موسى اللوم فقط على النازحين أو الدولة، بل يُحمّل بعض اللبنانيين المستفيدين من اليد العاملة السوريّة المسؤولية أيضاً، خصوصاً في ما يتعلّق بتسوية أوضاعهم وأوراقهم. وأوضح أن البلدية قامت بإحصاء عدد النازحين الذي بلغ حتى اليوم 820 شخصاً (5% منهم فقط كان موجوداً قبل الحرب السورية)، مقابل 300 لبنانيّ مقيم. ولفت موسى إلى «أننا على تواصل دائم مع السوريين لتوجيههم وترشيدهم ومنع وقوع أي احتكاكات أو مشاكل تخلّ بأمن المنطقة أو البلدة». أما عدد الطلاب النازحين فيبلغ 300، يتلقّون دروسهم في مدرسة البلدة الرسمية على نفقة الأمم.
تجمّع كبير في رميش
جنوباً، تشهد رميش (بنت جبيل) أكبر تجمّع للنازحين في القضاء، إذ يفوق عددهم الـ 1000. في المقابل، يتخطّى عدد أبناء البلدة المقيمين الـ6000 ويرتفع العدد في عطلة الأسبوع والمناسبات وفصل الصيف مع مجيء المغتربين. وتتميّز البلدة بنموّ ديموغرافي وعمراني واقتصادي لافت. وفي الإطلاع على واقع النزوح السوري، أشار رئيس مجلسها البلدي ميلاد العلم إلى أنّ البلدية دأبت منذ سنوات على متابعة النازحين وإحصاء أعدادهم بشكل دوريّ وحثّ المعنيين على تسوية أوضاعهم وأوراقهم الثبوتية.
وأضاف: «نقوم بدوريات يومية حتى ساعات متأخرة من الليل، بهدف حفظ الأمن ومنع وقوع أي سرقات أو مشاكل، والحدّ من رمي النفايات بشكل عشوائي وتصريف الصرف الصحّي على الطرقات». ولفت العلم إلى أنّ جمعيات المجتمع المدني لم تقم بتقديم أي مساعدات في هذا المجال منذ 3 سنوات، وأن العبء الأكبر يقع على عاتق البلدية، التي تعاني أساساً كغيرها من بلديات لبنان وخصوصاً في القرى والأرياف، من ضائقة مالية».
ولفت إلى ان الأجهزة الأمنية الرسمية كالأمن العام، هي المسؤولة عن تسوية أوضاعهم وأوراقهم، كما أنّ ارتفاع معدّلات الجرائم التي يرتكبها السوريون وازدحام السجون والنظارات بهم، حدّت من قدرة القوى الأمنية على متابعة مهامها». وتطرّق رئيس البلدية إلى الطلاب السوريين الذين يبلغ عددهم نحو 419، يتلقّون تعليمهم على نفقة الأمم المتحدة، وأردف أنّ «الجهات المانحة، تدفع لكلّ تلميذ 20 دولاراً بدل نقل، يذهب المبلغ إلى جيوب الأهالي ويرسلون أولادهم سيراً على الأقدام إلى المدارس، ما يعرّض سلامتهم والسلامة العامة للخطر».
وختم العلم مشدّداً على أنّ حلول البلديات تبقى جزئية ومحدودة جدّاً نظراً للتحدّيات والمشاكل اليومية والإجتماعية والمعيشية التي نواجهها يوميّاً، ولا تملك الوسائل المادية والمعنوية والقانونية لحلّ معضلة النزوح السوري، ويبقى على السلطة المركزية المتمثّلة بمجلس الوزراء اتخاذ القرار الشجاع والحاسم الموافق لمصلحة لبنان.
دبل خالية تماماً
أما في جارتها دبل، فغابت قضية النازحين عن اهتماماتها وأعبائها. والسبب، أنها ربما البلدة الوحيدة في لبنان، الخالية تماماً من أي وجود للنازحين أو اللاجئين منذ بداية الأزمة السورية، باستثناء بعض العمّال الذين يأتون للعمل كمساعدين لأبناء البلدة ويغادرونها فور انتهاء مهامهم. وشدّد أحد سكّانها على أنّ «عدم استقبال النازحين منذ البدايات ليس عنصرية، إنما كان صوناً لهويتنا وثقافتنا»، مردفاً أن «العمّال السوريين الذين يأتون للعمل في بعض المجالات والمهن المحدّدة، يلاقون حسن الإستقبال والمعاملة (بناء على شهادتهم)». وختم قائلاً: «القرار الذي اتخذه شباب البلدة أثبت أننا كنّا على حقّ، وأبعدنا عنّا ما تعاني منه القرى والمناطق اللبنانية كافة».