عرب وعالم

سلام: وقف الأعمال العدائية “خدعة”… والإحباط يخيّم على الحكومة

26 تشرين الثانى, 2025

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرًا موسَّعًا يرصد واقع وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله بعد عامٍ على إعلانه، وكيف تحوّل هذا الوقف إلى حالةٍ رمادية بين الحرب والسِّلم في لبنان، على خلفيّة سياسةٍ إسرائيليّة تقوم على الضربات الاستباقيّة، ورؤيةٍ أميركيّة تربط الاستقرار بالازدهار الاقتصاديّ لا بالديمقراطية، فيما يدفع المدنيّون الثمن الأكبر على جانبيِ الحدود، وفق الصحيفة.

 

وقفُ إطلاقِ نارٍ هشٌّ وحربٌ لم تتوقَّف

يرى التقرير أنّ هذا الواقع يمثّل صورةَ وقفِ إطلاقِ النار بين إسرائيل وحزب الله، الذي تمّ التوصّل إليه قبل عامٍ كامل، لكنّه وقفٌ تخرقه ضرباتٌ إسرائيليّة شبهُ يوميّةٍ تستهدف الحزب، من بينها اغتيال أحد قادته الكبار في بيروت خلال الأسبوع نفسه.

هذه الضربات، كما يصفها التقرير، تُجسِّد حالة “سلامٍ مُتآكل” يعيشها لبنان في منطقةٍ رماديّة بين الحرب والسِّلم، وهو مصيرٌ قد يكون مشابهًا لما تنتظره غزّة، حيث ترفض حركة “حماس” نزعَ سلاحِها، وتواصل إسرائيل قصف أهدافٍ منتقاة.

فعليًّا، يشير التقرير إلى أنّ الحرب التي امتدّت إلى لبنان بعد هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 قد تباطأت، لكنّها لم تتوقّف قط.

 

موقفُ رئيسِ وزراءِ لبنان: معادلةٌ مستحيلة

في مقابلةٍ مع الصحيفة، عرض نواف سلام، رئيسُ وزراءِ لبنان، المعضلةَ الأساسيّة كما يراها، فقال: “يقول الإسرائيليّون إنّهم لا يستطيعون الانسحاب ما لم يتمّ نزعُ سلاحِ حزبِ الله، ويقول حزب الله: كيف يمكننا نزعُ سلاحِنا ما دام الإسرائيليّون لا ينسحبون؟”.

وأضاف سلام: “يَعرِف حزبُ الله أنّ الأمور تغيَّرت في المنطقة، لكنّه لا يزال يحاول المقاومة.”

ويخلُص التقرير إلى أنّ مستنقع انعدام الثقة هذا قاد إلى تصعيدٍ خطير، وأنّ هدف إدارة ترامب، القاضي بأن ينزع حزبُ الله سلاحَه بالكامل بحلول نهاية العام، يبدو هدفًا غير واقعيّ في ضوء الوقائع الميدانيّة والسياسيّة.

 

إعادةُ تشكيلِ الشرق الأوسط: ازدهارٌ لا ديمقراطية

أشار التقرير إلى أنّ الولايات المتحدة تضغط، في مختلف أنحاء المنطقة، من أجل إعادةِ تشكيلِ الشرق الأوسط بوسائل جديدة. كلمة “الديمقراطية” لم تَعُد جزءًا من قاموس الرئيس دونالد ترامب، فيما تُطرَح “الازدهار”، لا صناديق الاقتراع، بوصفه الحلّ السحريّ الجديد.

لكنّ رحلةً استمرّت عدّة أسابيع إلى لبنان وإسرائيل وتركيا، كما يروي كاتب التقرير، توحي بأنّ تجدُّد الحرب، في الوقت الراهن، أكثرُ احتمالًا من ترسيخ السلام.

 

لبنان نموذجٌ لموازينِ قوى جديدة

تقدّم الحالة في لبنان مثالًا واضحًا على شرقِ أوسطٍ جديد تتزايد فيه قدرةُ إسرائيل على الوصول عسكريًّا إلى معظم الجبهات المحيطة بها.

وفق التقرير، أصبح “محورُ المقاومة” بقيادة إيران، الذي كان حزبُ الله جزءًا محوريًّا فيه، ظلًّا لما كان عليه. فإيران أُنهِكت في حربٍ قصيرة في حزيران/يونيو، وباتت أضعف، بينما فقدت سوريا، بعد سقوط نظام بشّار الأسد العام الماضي، موقعَها كحليفٍ أساسيّ لطهران، ولم تَعُد الممرَّ الذي ينقل السلاح الإيراني إلى حزب الله كما في السابق.

ومع توسّع الضربات الاستباقيّة الإسرائيليّة في دولٍ عدّة، يلفت التقرير إلى أنّ هذه الضربات باتت “القاعدة الجديدة”، لا الاستثناء.

 

حزبُ الله تحت الضغط: اتهاماتٌ إسرائيليّة وصمتٌ عسكري

بالنسبة إلى حزب الله، الذي يعتبره التقرير “أضعفَ لكنّه ما يزال متحدِّيًا”، فإنّ عمليّة التكيّف مع الواقع الجديد كانت قاسية. الحزب لم يردّ عسكريًّا على الهجمات الإسرائيليّة على لبنان، حتّى بعد أن تكثّفت منذ وقف إطلاق النار في غزّة الشهر الماضي، فيما تتّهمه إسرائيل بالسعي إلى إعادة بناء قدراته القتاليّة، مستندةً إلى جذوره العميقة في المجتمع الشيعي اللبناني.

توم باراك، سفير الولايات المتحدة في تركيا والمبعوث الخاص إلى لبنان وسوريا، قال للصحيفة إنّ إسرائيل ستردّ “في أيّ وقت، وفي أيّ مكان” إذا شعرت بأيّ تهديد.

وأضاف، في معرض حديثه عن الضربات ضد حزب الله: “عندما يجد الإسرائيليّون هؤلاء الرجال، يتخلّصون منهم فورًا، لذلك لديك اثنان أو ثلاثة منهم أسبوعيًّا يتمّ القضاء عليهم.”

وبحسب التقرير، كان ذلك مصيرَ حسن عبد الكريم شحرور، الذي عرّفه حزب الله لاحقًا، حين استُهدِفت سيّارته البيضاء أسفل قلعة الشقيف في 20 أيلول/سبتمبر. وقال الجيش الإسرائيلي إنّه “قضى” على “إرهابيّ من حزب الله”.

وفي بيانٍ أصدره حزب الله في اليوم التالي، وردت الدعوة إلى المشاركة في “التشييع المبارك للشهيد السعيد على طريق القدس”.

 

شتولا والحدود: سلامٌ مرسومٌ على الجدار وحربٌ مستمرّة

على الجانب الإسرائيلي من الحدود، يسلّط التقرير الضوء على بلدة شتولا الزراعيّة الصغيرة الملاصقة للحدود اللبنانيّة، حيث يجلس شلومي حطّان، المسؤول الأمني الأوّل في البلدة، في مقهًى يُسمّى “على الحدود”، وبندقيّة معلّقة على كتفه، يحدّق عبر أرضيّةٍ من العشب الاصطناعي باتّجاه الجدار الفاصل.

تُعزَف في المكان أغنية “Peace Train” لكات ستيفنز بصوتٍ مرتفع يكفي ليُسمَع في الجانب اللبناني، فيما تزيّن الجدار جداريّات وكتابات تحمل رموزًا للمصالحة والسلام، أبرزها امرأةٌ تسقي شجرةَ زيتون وكلمات من سفر إشعياء تقول: “فيطبعون سيوفهم سككًا”.

قبل ستّ سنوات، جاء عشرةُ فنّانين إلى شتولا لمدّة شهرٍ في لحظة تفاؤل، ورسم كلٌّ منهم رمزًا للسلام على مقطعٍ بطول عشرة أمتار من الجدار. لكنّ هذه الصور، بحسب التقرير، باتت اليوم تبدو كأنّها توثِّق “أوهام البشر” أكثر من آمالهم.

يشير التقرير إلى أنّ الحرب التي شنّتها إسرائيل في غزّة في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والتي قُتل فيها عشراتُ الآلاف من الفلسطينيّين، ألحقت ضررًا بصورة إسرائيل، وعمّقت عزلتَها عالميًّا، وزادت الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، بحيث لم يَعُد واضحًا ما إذا كانت إسرائيل قادرةً على تحويل تفوّق قوّتها العسكريّة إلى أمنٍ استراتيجيّ مستدام.

شلومي حطّان، البالغ 55 عامًا، يُقدَّم في التقرير بوصفه صوتًا صريحًا لاستراتيجيّة إسرائيل الجديدة القائمة على الضربات الاستباقيّة العدوانيّة. وُلِد في شتولا وبقي فيها، حتّى بعد أن أُجلي معظمُ سكّان البلدة البالغ عددُهم 300 شخصٍ تحت نيران صواريخ حزب الله بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، في إطار عمليّة إجلاء شملت 60 ألف إسرائيلي من شمال البلاد قبل عامين.

لم يستطع حطّان أن يترك مجتمعَه الذي يعتبره حياتَه كلّها، فعاد، شأنه شأن نحو ثلث السكّان فقط، بينما بقيت الشوارع خاليةً إلّا من القطط الشاردة.

في الأفق، تظهر أبراجُ اتّصالاتٍ إسرائيليّة رفيعة على خمسِ تلالٍ داخل الأراضي اللبنانيّة، تتلألأ بلونٍ مائل إلى الحمرة تحت الشمس، فيما يرفض الجيش الإسرائيلي، رغم اعتراض لبنان، إزالةَ المعسكرات الصغيرة المحيطة بها، على الرغم من أنّ وقف إطلاق النار ينصّ على انسحابٍ إسرائيليّ كامل.

قال حطّان للصحيفة، وهو يشير إلى برج مراقبةٍ لحزب الله مدمَّر:
“لن نعود إلى الوضع الذي كان قبل 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، مع عدوِّنا قريبًا من السياج.”

وأضاف: “تعريفُنا للحركة المشبوهة الآن منخفضٌ جدًّا، وسيُقابَل بردٍّ فوري.”

قبل هجوم 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، يصف حطّان إسرائيل بأنّها كانت “أمّةً مخدَّرة”، مع ازدهار السياحة والاقتصاد والشعور بالسلام، وكان الاعتقاد السائد أنّ العدو، سواء في لبنان أو غزّة، قد رُدع قبل أن “ينزع الأقنعة عن وجهه”.

على طول الجدار، لخّص حطّان هذا التحوّل بقوله: “الآن، سيتعيّن علينا أن نعيش بالسيف في القرن المقبل.”

وفي برج حراسةٍ إسمنتيٍّ مُواجِهٍ للبنان، رصدت الصحيفة كلماتٍ محفورة إلى جانب فتحةٍ ضيّقة تقول: “إنسان. أب. يهودي. إسرائيلي. لا تَنْسَ ولا تُسَامِحْ. تذكّر لماذا أنت هنا وماذا تواجه.”

 

الهيمنة غير المتهاوِنة و”وقف الأعمال العدائيّة”

ينقل التقرير عن نواف سلام أنّ “وقف الأعمال العدائيّة” المزعوم يشكّل مصدرَ إحباطٍ عميق للحكومة اللبنانيّة.

سلام، وهو محامٍ من عائلةٍ بيروتيّة معروفة، تولّى رئاسةَ الحكومة في وقتٍ سابقٍ من هذا العام بوصفه شخصيّةً إصلاحيّة تسعى إلى تكريس الحقّ الحصريّ للدولة في حمل السلاح. لكنّ الدولة، شبه المنهارة اقتصاديًّا وماليًّا، لم تنجح يومًا في تحقيق هذا الهدف، الذي يعني عمليًّا نزعَ سلاحِ حزبِ الله، وهي مهمّة مُوكَلة إلى الجيش اللبناني الوطني ذي العتاد المحدود والتمويل الضعيف.

قال سلام: “لدينا لاعبٌ منفلت يتصرّف كهيمنةٍ تحت قيادة نتنياهو، الذي يزداد قوّةً يومًا بعد يوم.” وتابع: “في الوقت نفسه، هناك جيلٌ جديد في العالم لم يَعُد يحتمل السلوك الإسرائيلي.”

وبحسب التقرير، كانت إسرائيل قد تعهّدت في هدنة العام الماضي بالانسحاب من لبنان خلال 60 يومًا، لكنّها “بقيت في خمس نقاط على التلال”، كما يقول سلام، الذي أثار هذا الموضوع مرارًا مع اللواء جاسبر جيفرز الثالث، الضابط الأميركي الذي قاد لعدّة أشهر “آليّة المراقبة” الخاصة بوقف إطلاق النار، من دون نتيجة.

يروي سلام أنّه قال للجنرال الأميركي بانفعال: “لسنا في عام 1914 أو 1915، لمراقبة ما يجري حولك، لستَ بحاجةٍ إلى أن تكون على قمّة تلٍّ يرتفع 700 متر ومعك مناظير أو تلسكوب غاليليو، لدى إسرائيل صورُ أقمارٍ صناعيّة وطائراتٌ مُسيَّرة وبالوناتٌ مزوّدة بأكثر الكاميرات تطوّرًا على وجه الأرض.”

فرنسا، التي تُشرف على وقف إطلاق النار إلى جانب الولايات المتحدة، طالبت رسميًّا هذا الشهر بانسحاب إسرائيل من المواقع الخمسة، لكنّ واشنطن لم تُمارِس ضغطًا علنيًّا بهذا الاتجاه.

من جهتها، صرّحت مورغان أورتاغوس، المبعوثة الأميركيّة الرفيعة إلى الشرق الأوسط، خلال زيارةٍ إلى بيروت مؤخرًا، بأنّ على الجيش اللبناني أن يُكمِل نزع سلاح حزب الله بالكامل بحلول نهاية العام، من دون أن يُطرَح بالمقابل أيّ التزامٍ سياسيّ أو أمنيّ من جانب إسرائيل.

وزيرُ الماليّة اللبناني، ياسين جابر، شكّك في قدرة الجيش على تحقيق هذا الهدف، قائلًا: “لا يمكنك أن تطلب من الجيش أن يصنع المعجزات وهو يفتقر إلى الموارد، وسلوك الطرف الإسرائيلي يقوّض المهمّة.”

السفير باراك أقرّ بأنّ العقبات أمام نزع سلاح حزب الله “هائلة”، فالحزب في آنٍ واحد حزبٌ سياسيّ راسخ يتمتّع بدعمٍ شيعيّ واسع، وجماعةٌ مُصنَّفة أميركيًّا على أنّها “إرهابيّة”.

قال باراك: “إذا كنتَ جنديًّا في الجيش اللبناني وتتقاضى 300 دولار في الشهر، فعليك أن تعمل ثلاث وظائف، أنت سائق أوبر، وبارِسْتا، وجندي.”

ثم أضاف، في تصويرٍ لصعوبة المهمّة: “ثم تذهب لتطرق باب بيتٍ شيعيّ يوم الاثنين وتقول: “آسف يا رجل، هل يمكنني الدخول إلى قبو بيتك لأخذ الكلاشنيكوفات؟”، وأنت بذلك تُخاطر بحياتك.” ومع ذلك، شدّد على أنّه “لا بدّ أن يكون هناك جيشٌ واحدٌ فقط” في لبنان.

 

حزبُ الله وقاعدتُه: “أسلحتُنا ستبقى”

يُؤكِّد التقرير أنّ تحقيق هدف نزع سلاح حزب الله لن يكون سهلًا، فالحزب الضعيف ليس حزبًا بلا قوّة. الأموال لا تزال تتدفّق إليه عبر تجارةِ المخدّرات وطرقٍ أخرى، وعددُ مقاتليه يُقدَّر بعشرات الآلاف، فيما يبقى المزاجُ متحدِّيًا في مناطق نفوذه، خصوصًا في الضاحية الجنوبيّة ذات الغالبيّة الشيعيّة في بيروت.

في “هنغارٍ” كبير في الضاحية، تجمّع نحو ألف شخصٍ من أنصار الحزب خلال زيارة الصحيفة في أيلول/سبتمبر، حيث تعالت هتافات من نوع: “ستُهان إسرائيل، ستزول إسرائيل، نحن بعيدون عن الإذلال.”

كان الحشد يُصغي إلى خطابٍ يُلقيه نعيم قاسم، الذي أصبح زعيمَ حزب الله بعد اغتيال حسن نصر الله في 27 أيلول/سبتمبر 2024 بضربةٍ إسرائيليّة تركت الحزب، بحسب التقرير، “من دون بوصلة” لفترة.

ظهر قاسم من مكانٍ غير معروف على شاشةٍ كبيرة، تحيط به صورُ القتلى، وبينهم كثيرٌ من الفتيان والفتيات الصغار، في مناسبةِ إحياء ذكرى القيادي في الحزب إبراهيم عقيل، الذي قُتل أيضًا بضربةٍ إسرائيليّة العام الماضي.

يرى التقرير أنّ هذه المناسبة كانت تذكيرًا بأنّ كلَّ موتٍ تتسبّب به إسرائيل، أو أيُّ طرفٍ آخر، لا يفعل سوى تعزيز عزم خصومها، مهما كانوا أضعف، وتقويض أيّ نزعةٍ نحو السلام. لافتةٌ كبيرة لحزب الله على الأوتوستراد الساحلي لخّصت الفكرة بشعار: “حين ننتصر نربح، وحين نُستشهَد نربح.”

في الضاحية نفسها، تُرِكت الفجوةُ العميقة الناتجة عن القصف الذي قتل نصر الله شبه مهمَلة. من وسطها ترتفع يدٌ مُجسَّمة تحمل راية حزب الله الصفراء الممهورة بصورة بندقيّة، وعلى لوحةٍ إعلانيّةٍ قريبة كُتب: “لن أتخلّى عنك.”

قال نعيم قاسم في خطابِه: “العدوّ لا يزال العدوّ نفسه، ومرتكبُ المجازر هو نفسه.”

ثمّ تساءل: “فكيف نَتخلّى عن السلاح؟ كيف؟ لا، أسلحتُنا ستبقى، من الآن وحتّى يوم القيامة، ستبقى!”

 

جنوبُ لبنان بين إسرائيل وسوريا الجديدة

يُذكِّر التقرير بأنّ جنوب لبنان كان دائمًا معقلًا لحزب الله ومفترقَ طرقٍ للصراع مع إسرائيل، ومن هنا اجتازت القوات الإسرائيليّة الحدود عام 2024 ردًّا على هجمات الحزب. الخوفُ والعنف يسودان هذه المناطق الحدوديّة، حيث الجروح التي تركتها إسرائيل هي الأعمق.

في النبطية، يجلس رئيسُ البلدية عباس فخر الدين تحت صورة أحمد كحيل، الطبيب ورئيسِ البلديّة السابق الذي قُتل في ضربةٍ إسرائيليّة على مبنى البلديّة في 16 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، أودت بحياة 16 شخصًا في المجموع، فيما لا يزال الركام على حاله حتّى اليوم.

عندما سُئل إن كان خائفًا، أجاب: “لا، عليّ أن أكون مع شعبي في السراء والضرّاء.”

النبطية ومحيطُها لا يزالان يتعرّضان لضرباتٍ إسرائيليّة مُتقطِّعة تقتل أشخاصًا وتُعمِّق شعورًا بأنّ وقف إطلاق النار أقلّ ثباتًا حتّى من المباني المنهارة في لبنان. وبرأي رئيس البلديّة، فإنّ الاستراتيجيّة الأميركيّة “مُكرَّسة بالكامل لدعم إسرائيل”.

قال فخر الدين، وهو يمدّ ذراعيه متسائلًا: “كلّ شيءٍ يُفعَل لتسهيل العدوان الإسرائيلي وجعل بقاء إسرائيل أمرًا يسيرًا.”

وتابع سائلًا: “ماذا حدث للإنسانيّة لدى أنظمة العالم؟”

أضاف أنّ حزب الله يواجه اليوم عدوَّين: إسرائيل ونظامًا معاديًا في سوريا كانت يومًا ما حليفًا لا غِنى عنه.

الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، يُعرِّفه التقرير بأنّه جهاديٌّ سُنّيّ سابق أنشأ فرعًا لتنظيم القاعدة في سوريا قبل أن يُخفِّف من مواقفه، وهو ليس صديقًا لإيران ولا لوكلائها مثل حزب الله، ولم ينسَ الدعم القوي الذي قدّمته طهران لبشّار الأسد، “الطاغية الوحشي” الذي أطاح به الشرع العام الماضي بعد حربٍ أهليّةٍ دامت 13 عامًا.

يقول فخر الدين، المتعاطف مع حزب الله من دون أن يكون منتسبًا إليه:
“سوريا كانت خسارةً كبيرة، بعض أفراد حزب الله يقولون: خسرنا كلَّ شيء.”

ويضيف: “لذا لدينا خوفان، من الجنوب ومن الشرق، ويُطلَب منّا أن ننزع سلاحنا!”

الخيام: بلدةٌ مدمَّرة وراياتٌ صفراء وسط الغبار

أبعدَ جنوبًا، على تماسّ الحدود مع إسرائيل، يقدّم التقرير صورةً عن بلدة الخيام التي تُجسِّد حجمَ الدمار الواسع في المنطقة، في حين أنّ القرى المسيحيّة المجاورة نَجَت إلى حدٍّ كبير من المصير نفسه.

في الخيام، تتدلّى ألواحُ الإسمنت بزوايا غير مألوفة من المباني المنهارة، فيما لا تزال مئذنةُ مسجدٍ نحيفةٌ قائمةً فوق قاعةِ صلاةٍ مدمَّرة تحتها. الجرافات تتحرّك ذهابًا وإيابًا، تنقل الركام من مكانٍ إلى آخر من دون هدفٍ واضح، وبين الحين والآخر يُعثَر على جثّةٍ مدفونة تحت الأنقاض، بينما ترفرف راياتُ حزب الله الصفراء وسط الغبار الكثيف في الهواء.

القصف الإسرائيلي خلال الحرب وبعدها لم يترك سوى هيكلٍ لبلدةٍ كان يعيش فيها 28 ألف شخص. العددُ الدقيق للقتلى غير معروف، لكنّه “بالتأكيد بالمئات” وفق ما ينقل التقرير عن السكّان.

في كشكٍ وحيد على الشارع، كان خالد موسى، البالغ 23 عامًا، وهو لاجئٌ سوريّ قال إنّه فرّ من الحرب الأهليّة في بلاده في سنّ العاشرة “محمولًا على عنق أبي”، يحتسي قهوةً سميكة حبيبيّة. قال للصحيفة: “الحرب تُطارِدُنا.”

 

داخل إسرائيل: رهائن عادوا ومجتمعٌ منقسم

على الجانب الآخر من الحدود، يشير التقرير إلى أنّ جميع الرهائن الإسرائيليّين الأحياء الذين أسرتهم “حماس” عادوا إلى منازلهم من غزّة، وهو ما شكّل مصدرَ ارتياحٍ كبير لأورنا وينبرغ في كيبوتس منارة على الحدود اللبنانيّة.

لكنّ وينبرغ لا تزال غاضبة، مليئة بعدم الثقة بالحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو، التي تعتقد أنّها تستخدم توسيع النزاعات للبقاء في السلطة، وترى أنّ لجوءَ إسرائيل السريع إلى الضربات الاستباقيّة ضد أعدائها في أيّ مكان وصفةٌ لحربٍ لا تنتهي.

قالت عن قادتها: “يمكنهم إشعال المنطقة كلّها من جديد إذا خدمهم ذلك”، بما في ذلك في لبنان.

شاهدت وينبرغ قصفَ حزب الله يدمّر الكيبوتس في أعقاب هجوم “حماس” في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، واضطرّت إلى مغادرة المكان الذي تُحبّه والذي عاشت فيه طوال حياتها.

ومع امتداد الحرب في غزّة لعامَين، نَفرت من خطاب اليمين المتطرّف عن أنّه “لا يوجد أبرياء في غزّة” وعن شعار “الموت للعرب”، الذي رأت أنّه يعني ضمنًا قتل المواطنين العرب في إسرائيل، الذين يشكّلون خُمس السكّان.

يرافق التقريرَ صورٌ من الكيبوتس، بينها صورةٌ لامرأة ذاتِ شعرٍ فضّي تقف أمام جدارٍ رمادي، هي أورنا وينبرغ نفسها، داخل أنقاض منزل جارها الذي دمّرته صواريخ حزب الله، وصورةٌ أخرى لدبّابةٍ إسرائيليّة تُثير الغبار وهي تتحرّك على طول الحدود اللبنانيّة الإسرائيليّة قرب بلدة دوفيف.

تقول وينبرغ إنّها لا يمكن أن تتقبّل الطريقة التي خيضت بها حروبُ إسرائيل منذ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023:
“بمجرّد أن تقوم حكومتك بأشياء تناقض أخلاقك وأبسط مشاعرك وأفكارك وقيمك ومبادئك، فإنّ ذلك يُحطِّم الروح.”

وتضيف: “إنّه يفعل شيئًا فظيعًا.”

وعلى عكس شلومي حطّان على الحدود نفسها، تشعر وينبرغ بالاشمئزاز من نتنياهو ومن إسرائيل المتشدّدة التي أصبحتها البلاد، في وقتٍ يرى فيه التقرير أنّ الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي “أكثر حدّة من أيّ وقتٍ مضى”.

تلاحظ وينبرغ أنّ الحرب أداةُ تشتيتٍ فعّالة، وتعتقد أنّ نتنياهو يُدرِك ذلك جيّدًا. وينقل التقرير عنه قوله في 2 تشرين الثاني/نوفمبر:
“لن نسمح للبنان بأن يصبح جبهةً مُتجدّدة ضدّنا، وسنتصرّف كما يلزم.”

 

الرؤيةُ الأميركيّة الجديدة: “فجرٌ جديد” أم وَهمٌ سياسي؟

في إسطنبول، يروي التقرير تفاصيل لقاءٍ مع السفير الأميركي توم باراك على شرفة مقرّ إقامة السفير، المُطلّة على مضيق البوسفور، حيث كانت السفن التجاريّة تشقّ طريقها في هذا الممرّ المائي الذي خاضت دولٌ وقوى حروبًا للسيطرة عليه قرونًا طويلة.

من هنا بسطت الإمبراطوريّة العثمانيّة، لخمسة قرون، نفوذَها على أكثر من عشرين قوميّة، من نهر الدانوب إلى الخليج العربي، قبل أن تتقسّم المنطقة بعد الحرب العالميّة الأولى. باراك، رجلُ الأعمال القديم وصديقُ الرئيس ترامب، يسعى اليوم، وفق التقرير، إلى تهدئة الحروب التي دمّرت الشرق الأوسط منذ ذلك التقسيم، معتبرًا أنّ المنطقة تقف أمام نقطة تحوّل جديدة.

يُوصَف باراك في التقرير بأنّه براغماتيّ ذو حيويّة عمليّة، أميركيّ من كاليفورنيا من أصولٍ لبنانيّة مسيحيّة، يُشكِّك في كلمة “سلام” التي يعتبرها “وهميّة، أو في أفضل الأحوال مؤقّتة” في بيئةٍ مُثقَلة بسبب الجراح العميقة.

يُفضّل الحديث عن “تعزيز الازدهار التعاوني، ومنع الموت غير الضروري، وإعادة الكهرباء من دمشق إلى بيروت”، قائلًا:
“المسألة ليست في الأرض التي تسيطر عليها، بل في الطريقة التي تعيش بها.”

في دولٍ مثل لبنان وسوريا، كما يرى باراك، يقتل الناس بعضهم بعضًا منذ زمنٍ طويل بسبب “حقائق لم تَعُد مهمّة”. وهو يدعو إلى “استراحة” من هذا المسار، متسائلًا:
“كم جيلًا آخر تريدون أن يستمرّوا في قتل بعضهم بعضًا؟”

لكنّ التقرير يشير إلى أنّ هذه الدعوة إلى براغماتيّةٍ مستقبليّة باسم خلق الثروة تبدو بعيدة المنال في منطقةٍ تمسك فيها الوقائعُ المتنازَع عليها في الماضي بعقول الناس بقبضةٍ فولاذيّة. فالولايات المتحدة سبق أن طرحت خططًا جريئة في الشرق الأوسط، لكنّ نهاياتها لم تكن جيّدة.

يريد الشعبُ الفلسطيني دولةً، ويرى التقرير أنّه من المتعذّر أن تُغيِّر الأموالُ وحدها هذا الطموح الوطني، وقد أثبتت التجارب أنّ القضيّة الفلسطينيّة قادرةٌ على إشعال الحرب بشكلٍ دوريّ.

مع ذلك، يشير التقرير إلى أنّ الولايات المتحدة غيّرت مقاربتها للمنطقة رأسًا على عقب؛ خرجت “الدبلوماسيّة الملتوية” وعبارات مثل “حلّ الدولتين”، ودخلت الأفعالُ الجريئة التي تخلق زخمًا نحو ما يسمّيه ترامب “فجرًا جديدًا”.

الرؤيةُ الكبرى لترامب، كما ينقلها التقرير، تقوم على جمع رؤوس الأموال الخليجيّة، والبراعة التجاريّة اللبنانيّة، والتكنولوجيا الإسرائيليّة، والقوى العاملة العربيّة الكبيرة، لإنتاج “معجزات اقتصاديّة” تُصالِح الشرق الأوسط. لكنّ التقرير يترك علامة استفهام كبيرة حول ما إذا كانت هذه الرؤية ستتجاوز حدود “الوهم”.

يدفع باراك بقوّة لاغتنام “اللحظة”، ويقول لقادة لبنان إنّ نزع سلاح حزب الله سيؤدّي إلى “عودة السعوديين والقطريين، الذين باتوا غير مرغوبين في لبنان لأنّهم حاولوا، واختفت أموالهم بسبب الفساد”.

وبحسب ما نقله سلام للصحيفة، اقترح باراك “خطواتٍ متزامنة” من جانب إسرائيل وحزب الله كطريقٍ للمضيّ قدمًا:
“يُسلِّم حزب الله بعض الأسلحة ويُخلي جزءًا من البلاد، وتنسحب إسرائيل من نقطتين من النقاط الخمس، وهكذا.”

لكنّ سلام يضيف، بعد صمتٍ طويل، تعليقًا على مصير هذا الاقتراح:
“كانت فكرة ممتازة من جانبه، لكن لم يحدُث شيء.”

 

بنت جبيل: ضربةٌ مُسيَّرة وعائلةٌ لبنانيّة بلا رايات

في 21 أيلول/سبتمبر، بعد يومٍ واحد من الغارة قرب قلعة الشقيف، نفّذت إسرائيل ضربةً جديدة بطائرةٍ مُسيَّرة في بلدة بنت جبيل جنوب لبنان.

استهدفت الضربة سيّارة شادي شرارة، فقتلته مع توأمَيْه البالغَيْن من العمر 18 شهرًا، هادي وسيلان، وابنته البالغة ثماني سنوات، سيلين. زوجته أماني بزي نجت من الهجوم، كما نجا طفلٌ رابع، فيما قُتل رجلٌ كان على درّاجةٍ ناريّة قرب السيّارة.

ردًّا على سؤال الصحيفة، قال الجيش الإسرائيلي إنّه استهدف “عنصرًا مجهول الهويّة من حزب الله”، وإنّه “خلال تحييد الإرهابيّ في غارةٍ جوّية، اقتربت سيّارةٌ ثانية تقلّ مدنيّين من الهدف، ونتيجةً للغارة أُصيبت تلك السيّارة أيضًا”. وأضاف أنّه “يأسف لأيّ أذًى يُلحَق بغير الضالعين”.

شارك الآلاف في جنازة العائلة يوم 23 أيلول/سبتمبر. حملت نعوشُ التوأمَيْن الصغيرَيْن صورهما، وكانت مغطّاة بالأعلام اللبنانيّة، فيما لُفَّ جثمانا الطفلين بقماشٍ أزرق وزهريّ عند مواراة الجثامين في الثرى. صوّرت الصحيفة رجالًا يحملون النعوش المغطّاة بالعلم اللبناني وصور الأطفال، ومشيِّعين بملابس داكنة في مقبرة بنت جبيل.

يشير كاتب التقرير إلى أنّه لم تُرفَع في الجنازة راياتٌ صفراء لحزب الله، ولا شعاراتٌ للحزب، ولا ما يدلّ على أنّ العائلة لها أيّ صِلة تنظيميّة بالحزب.

في اليوم نفسه، يقول نواف سلام إنّه تلقّى اتصالًا من “آليّة المراقبة” التي تقودها الولايات المتحدة وفرنسا لتقييم الالتزام بوقف إطلاق النار في لبنان، أبلغته فيه بأنّها عقدت “اجتماعًا ممتازًا”.

ثم يروي سلام:
“بعد نصف ساعة أتلقّى اتصالًا آخر يُبلِّغني بمقتل خمسة أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال، بضربةٍ إسرائيليّة بطائرة مُسيَّرة في بنت جبيل.”

ويختم كلامه بمرارة:
“أشعر بالإحباط، لكن ما الفائدة من الاحتجاج مرّةً بعد مرّة؟”

شارك الخبر: