عام 2025… حين اصطدمت الدولة بأوكار الكبتاغون

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
منذ حدّد رئيس الجمهورية جوزاف عون في خطاب القسم مطلع العام 2025، خارطة الطريق لبناء “وطن تحت سقف القانون، لا مافيات فيه أو بؤر أمنية، ولا تهريب أو تبييض أموال أو تجارة مخدرات”، بدا واضحًا أن مسألة تفكيك شبكات المخدرات وأوكارها في عهده، لن تُطرح كمسألة أمنية معزولة محليًا، بل كجزء من خيار سياسي أوسع، داخليًا وخارجيًا، يسعى لبنان إلى التموضع ضمنه، في مرحلة شديدة الحساسية إقليميًا ودوليًا.
وعليه، لم يكن مفاجئًا في العام الأول من العهد الجديد، ما أظهرته القوى العسكرية من حزم تجاه العصابات “المحمية”. بل شكّل ذلك جزءًا من “استراتيجية وطنية” وضعت تحت مجهر العالم كله، وحُدد سقفها باحتكار حمل السلاح، الاستثمار في الجيش لضبط الحدود، ومنع التهريب، ومحاربة الإرهاب، وتطبيق القرارات الدولية، ومن ضمنها تفكيك منظومة الاقتصاد “غير الشرعي” الذي نتج عن تلاقي العقوبات الدولية المفروضة على سوريا بتنامي الاقتصاد النقدي في لبنان بعد انهيار عملته الوطنية، وكان ممره الحدود المتداخلة بين سوريا ولبنان، وخصوصًا خلال الحرب التي خاضها “حزب الله” في مساندة نظام بشار الأسد السابق.
القرار السياسي أولًا
يدرك رئيس الجمهورية كقائد أعلى للقوات المسلّحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع، أهمية الغطاء السياسي الداعم للعسكر في واحدة من أصعب مهماته الداخلية. فقبل توليه مسؤوليته الجديدة، خاضت المؤسسة العسكرية بإمرته، مواجهات مباشرة مع عصابات الاتجار بالمخدرات وتهريبها، وقدّمت في سبيل ذلك شهداء كثرًا. ولكن ميزان القوى خلال تلك المرحلة، بقي مختلًا لمصلحة الشبكات. فاستمدّت الأخيرة غطاءها السياسي والأمني، من نفوذ القوى المهيمنة في مناطقها، والذي حوّلها جزرًا أمنية عصية حتى على سلطة الدولة.
تبدل موازين القوى المحلية والإقليمية
تختصر شخصية “سوبر ستار” تجار المخدرات نوح زعيتر في بعلبك الهرمل، طبيعة الغطاء الذي كان متوفرًا لعصابات المخدرات منذ خرج الجيش السوري من لبنان وحتى سقوط نظام بشار الأسد. فالمطلوب الأشهر والأكثر جدلية، شكّل نموذجًا صارخًا لوقاحة الإفلات من المحاسبة. ظهر في الإعلام، تجوّل بمواكب مسلّحة، شارك في مناسبات رسمية وغير رسمية، وحمل السلاح علنًا بوصفه “محاربًا ضد التكفيريين”.
استفاد زعيتر من سردية “حزب الله” لتبرير احتضانه للبيئات العشائرية في البقاع، بوصفها خزان دعم عسكري وأمني. ولكنه كما سائر تجار المخدرات، اتخذ من هذه الرعاية “للعشيرة” مظلة سياسية وأمنية، سمحت له بممارسة نشاطه “اللاشرعي” بأريحية تامة.
لم تبدُ حصانة زعيتر مهددة حتى بعد إدراج اسمه على لوائح العقوبات الأميركية في العام 2023. إلّا أن التصدع الذي أصاب “حزب الله” جراء خسارة حليفه السوري، وتراجع نفوذ ذراعه السياسي منذ سقوطه كقوة مقاومة لإسرائيل في العام 2024، أسقط معه هيبة اختراق بيئاته العصية على الدولة. وصار نوح زعيتر كما غيره من تجار المخدرات بلا سقف أو حصانة. وهذا ربما ما جعله يستسلم بطريقة وُصفت بالتمثيلية، في مشهد فضح كل سنوات إفلاته من العدالة سابقًا.
الدولة توزع رسائلها مع “أبو سلة”
تدحرجت خلال العام 2025 كرة توقيف كبار تجّار المخدرات بوتيرة غير مسبوقة. وقد ترافق ذلك مع مداهمات واسعة، واستخدام أدوات وأساليب لم تكن مألوفة سابقًا. وفي تعقبها للمطلوبين نفذت القيادة العسكرية عمليات نوعية، ولم تتردد باستهدافهم حتى بواسطة المسيّرات والمروحيات. فكان باكورة نتائج هذا الحزم، سقوط علي منذر زعيتر أو “أبو سلة”.
استحق زعيتر لقبه من أسلوبه الأول في توزيع المخدرات بواسطة سلة كانت تتدلى من شرفة منزله لتسليم الطلبات وتلقي الثمن، قبل أن ينفلش نشاطه لاحقًا ضمن شبكات أوسع.
وهو قد شكل وفقًا لما أفادت معلومات صحافية، حلقة وازنة في منظومة تجارة المخدرات المتشابكة بين الأراضي اللبنانية والسورية. وقد ارتبط اسمه بعمليات تهريب عابرة للحدود، وبشبكات تمتد من البقاع إلى الساحل، وصولًا إلى الخليج.
وفقا لبيان مديرية التوجيه كان “أبو سلة” مطلوبًا بأكثر من ألف مذكرة توقيف، بينها جرائم قتل عسكريين وخطف وإطلاق نار على دوريات الجيش. وعليه شكل مقتله في شهر آب من العام 2025، رسالة إلى المطلوبين بأن زمن التسويات الضمنية قد انتهى، وأن سقف المواجهة ليس أقل من تصفية البنية القتالية لتجار المخدرات، حتى ولو كان الثمن مواجهة مفتوحة. وهذا ما خلط الأوراق داخل البيئة الحاضنة لشبكات الاتجار بالمخدرات وتهريبها، وخصوصًا في منطقة بعلبك الهرمل.
ما زاد من إرباك عصابات المخدرات في هذه المنطقة، أنها خسرت ملاذ طفارها على الطرف السوري من الحدود، إثر سقوط نظام بشار الأسد وتلاشي نفوذ الفرقة الرابعة، الشريك الحدودي في صفقات المخدرات المتنقلة بين الحدودين.
حين تجنب نوح مصير أبو سلة وحسونة
استعاد الجيش معادلة المواجهة المفتوحة هذه، في شهر تشرين الأول من العام نفسه. حيث اشتبكت قوة منه في محلة الشراونة ببعلبك مع عصابة يديرها حسين جعفر المعروف بـ”حسونة”. فلقي “حسونة” مصير “أبو سلة”، حتى لو كبد ذلك القوى العسكرية خسارة في صفوفها إثر استشهاد العنصرَين بلال البرادعي وعلي حيدر.
في هذه الأثناء بدأت تسقط ورقة نوح زعيتر نهائيًا. فهم الرسالة من خلال عمليات الدهم الواسعة التي طالت منازل للأخير وعائلته، قبل تنفيذ الكمين الذي أدى إلى توقيفه.
تعدّدت الروايات حول كيفية توقيف زعيتر. فالجيش ومصادره تحدّثت عن خطة أمنية استمرت أشهرًا من الرصد والتضييق. بينما ذهبت تحليلات صحافية إلى اعتبار توقيفه مخرجًا قانونيًا يفتح الباب أمام محاكمة وجاهية تسقط الأحكام الغيابية السابقة بحق زعيتر، أو تمهيدًا لعفو عام يُعاد فيه ترتيب الملفات الأمنية الثقيلة، حتى لو كانت استفادة نوح من مثل هذا العفو مستبعدة تمامًا. ولكن توقيفه كان من دون شك نتيجة مباشرة للتحوّل الأمني في مواجهة وكر المخدرات الذي فرضته الظروف الإقليمية والدولية، حتى لو جنّبت نتيجته نوح، نهاية مشابهة لـ “أبو سلة” و”حسونة”.
في شاتيلا: حين خرج “المريب” ليقول خذوني
ولكن أوكار المخدرات في البقاع لم تكن وحدها في مرمى القوى العسكرية، بل كان أبرز توسع لعملياتها في العام 2025 في محيط مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين. هذا المخيم الذي انفضحت غرف المخدرات فيه إثر مقتل الشاب إيليو أبو حنا.
خرج “المريب ليقول خذوني” إثر الجريمة البشعة التي تعرض لها الشاب الذي ضل طريقه إلى المخيم. فأظهرت تداعيات الحادثة تمدّد تجارة المخدرات داخل واحدة من أكثر البيئات هشاشة، مستفيدة من الفقر، والتداخل العمراني، وغياب الدولة. فكشف “هنغار شاتيلا للمخدرات” عن نموذج لمراكز توزيع محصّنة بالسلاح والمقاتلين، تنطلق منها المخدرات إلى بيروت والضاحية وجبل لبنان.
كانت أهمية توقيف هدم الهنغار وتوقيف مديره حسن نعيمي المعروف بـ “حسن جرافة” المحكوم بالمؤبد، بعد رصد وتعقب وبالتنسيق مع أمن المخيم، في كسر حلقة أخرى من حلقات تجارة المخدرات، بصرف النظر عن الحساسية الأمنية للمخيمات التي حظيت لفترة طويلة بأمن ذاتي، والتي لا تزال تثير شبهات كثيرة حول كونها ملاذًا آمنًا للطفار من كافة مناطق لبنان.
عام المصادرات القياسية أيضًا
منذ مطلع العام 2025 إذًا، بدا لبنان أمام فرصة نادرة لتنظيف سجله من سمعة “دولة الكبتاغون”. وقد جاء ذلك في ظل ضغوط خليجية وأميركية واضحة، وتعاون استخباري غير مسبوق، أدّى وفقًا لمعلومات صحافية إلى مصادرات قياسية، تجاوزت في تسعة أشهر فقط، مجموع ما تمت مصادرته خلال خمس سنوات. هذا في وقت طرحت الدولة مع بدء تطبيق قانون تنظيم زراعة القنب، مسارًا بديلاً يقضي بتشريع الزراعة لاستخدامات صناعية وطبية. وهذا مسار من شأنه إذا شق طريقه بالسبل القانونية أن يحول “ذهب البقاع الأخضر” من اقتصاد أسود إلى نشاط منظم.
لبنان أمام اختبار الثقة العربية والدولية
لكن المعركة لا يبدو أنها حسمت بعد. فالشبكات التي نمت كبيت عنكبوت في المناطق الفقيرة، مستفيدة من الانهيار الاقتصادي والأمني وحتى السياسي، لا يمكن أن تسقط بالأمن وحده. وهذا ما يبرر الخشية من أن تبقى حملات تعقب تجار المخدرات، مجرد استجابة ظرفية للضغوط الخارجية. وبالتالي لا تتوفر لها ظروف مستدامة تسهم باستعادة ثقة الدول العربية والغربية بلبنان. علما أن هذا الملف شكل منذ العام 2021 أحد أبرز العوامل التي حددت علاقة لبنان بدول الخليج، ولا سيما السعودية، بعد حظر الواردات اللبنانية على خلفية شحنات الكبتاغون. وعلى رغم بداية ظهور تباشير ترميم هذه العلاقة في العام 2025، فإن الدول العربية ولا سيما الخليجية كانت واضحة على طول السكة بأن أي إعادة تطبيع اقتصادي أو تجاري مع لبنان، مشروطة بإجراءات ملموسة لا شكلية. وهذا ما يجعل من الحزم في توقيف نشاط تجّار المخدرات أحد شروط إعادة إدخال لبنان إلى “النظام الإقليمي المقبول”.
قد لا يكون الاختبار في الواقع سهلًا، خصوصًا أن الدول المعنية لا تراقب عدد الموقوفين فقط، بل مصيرهم القضائي، واستمرارية الإجراءات. فالدولة التي تعهّدت ألّا تصدّر الى الخارج سوى “الأفضل” وفقًا لما ورد في خطاب القسم لرئيس الجمهورية أيضًا، لا يمكنها تحمّل كلفة تصدير الفوضى مرة جديدة بأسماء جديدة.
فهل يتابع لبنان على مستوى سلطته الشرعية باستراتيجية واضحة للقضاء على “الاقتصاد الأسود” في العام 2026؟ أم تكون خطواته الملحوظة في العام 2025 مجرد شراء وقت لكسب ثقة دول العالم، كمحاولات أخرى كشفت على أكثر من صعيد؟
