مقبرة فريدة.. عظام سكان باريس السابقين معروضة بطريقة فنية

عندما تُذكر السياحة في العاصمة الفرنسية باريس، تتجه الأضواء عادةً إلى برج إيفل ومتحف اللوفر وكاتدرائية نوتردام والشانزليزيه وقوس النصر وقصر فرساي، إضافة إلى متحف ليزانفاليد العسكري الذي يضم قبور عدد من كبار القادة والجنرالات الفرنسيين، وعلى رأسهم نابليون بونابرت. غير أنّ تحت هذه المدينة الصاخبة بالحياة، وعلى عمق يتراوح بين 20 و25 متراً، يمتدّ معلم تاريخي لا يقلّ أهمية، هو «كاتاكومب باريس» التي تستقبل سنوياً أكثر من 300 ألف زائر، وتمثّل مقبرة هائلة عرضت فيها عظام ملايين البشر بطريقة فنية فريدة.
منذ العصور الوسطى، تنتشر تحت باريس شبكة واسعة من المغارات والمقالع تجاوز طولها 300 كيلومتر، استُخرج منها الحجر الجيري الذي استُخدم في تشييد عدد من أشهر معالم فرنسا، مثل مبنى ليزانفاليد وأجزاء من كاتدرائية نوتردام وقصر فرساي. ومع مرور القرون، تحوّلت هذه المقالع المهجورة إلى فضاء مثالي لحلّ مشكلة أخرى كانت تؤرق العاصمة.
فقبل أعوام قليلة من اندلاع الثورة الفرنسية، شهدت مقابر باريس اكتظاظاً حاداً، وفي مقدّمها مقبرة «دي إينوسون» أو «مقبرة الأبرياء»، التي كانت أقدم وأكبر مقابر المدينة. توسّعت القبور إلى حدّ باتت معه المقابر عاجزة عن استقبال مزيد من الموتى، وظهرت مخاوف صحية جدّية من انتشار الأوبئة. عندها تقرّر نقل البقايا البشرية من مقبرة الأبرياء إلى خارج النطاق العمراني آنذاك، وتحديداً إلى المقلع الحجري القديم في منطقة «تومب إيسوار»، كما صدر عام 1780 قرار رسمي بالتخلي عن المقبرة ووقف الدفن فيها.
نُقلت العظام عبر فتحة حُفرت على هيئة بئر تؤدي إلى قاع المغارات، حيث تولّت فرق من العمّال في الأسفل نقل هذه البقايا إلى الداخل ورصّها في أكوام متراصّة. ومع الوقت، تحوّلت هذه الشبكة الجوفية إلى ما بات يُعرف بـ«كاتاكومب باريس»، التي قُدّر أنّها تحتوي على رفات نحو ستة ملايين من سكان المدينة ممن عاشوا في عصور سابقة، دُفنت عظامهم بلا أسماء أو شواهد تُعرّف بهم، في مشهد يختصر تاريخاً كاملاً من الموت الجماعي والحروب والأوبئة.
في عام 1809، فُتحت الكاتاكومب أمام الجمهور، واستُكملت حينها الأعمال التي بدأها المهندس المعماري شارل أكسيل غيومو، ليتولى الجيولوجي المتخصص بالمناجم هيريكار دو توري مهمة إعادة تنظيم هذا العالم السفلي. فبنى جدراناً منسّقة من العظام والجماجم، شكّلت لوحات جنائزية مروّعة وجميلة في آن، كما شَيّد أعمدة وأروقة استوحت هندستها من الغرف الجنائزية لدى المصريين القدماء، وزيّن المكان بعبارات واقتباسات من الشعر الإغريقي تحمل تأملات في الحياة والموت.
وتشير مصادر عديدة إلى أنّ الكاتاكومب تضمّ بقايا عدد من الشخصيات الفرنسية البارزة، من بينهم من يُعتقد أنّهم الكاتب فرانسوا رابليه، والعالم أنطوان لافوازييه، إضافة إلى رفات عدد من رموز الثورة الفرنسية مثل روبسبيار وجورج دانتون وكامي ديمولان، فضلاً عن ضحايا الثورة وضحايا الطاعون الأسود. وهكذا تحوّلت كاتاكومب باريس إلى معلم سياحي فريد يجمع بين التاريخ والهندسة والفن، ويقدّم لزوّار المدينة وجهاً آخر من وجوهها المخفية تحت الأرض.
